الثلاثاء، 14 أبريل 2009

من الابتكار إلى الإبداع.. من العبقرية إلى الجنون!!
بقلم: أ.د. مصطفى رجب

تهتم الدول المتقدمة والنامية على السواء باستثمار أهم ثرواتها البشرية وهي الطاقات الخلاقة لأبنائها، حيث أن الضمان الحقيقي لحياتنا ومستقبلنا يعتمد أساسا على أهم مصادر الإنتاج بصفة خاصة، وذلك لأن التطور الكبير في مجتمعنا الحديث والانطلاق الواسع في النواحي الصناعية ما هو إلا انعكاس للتقدم العظيم في العلوم الرياضية والتكنولوجيا، فقد انتصر العلم في غزو العالم الخارجي بسفن الفضاء، والأقمار الصناعية وبالطيران الذي تفوق سرعته سرعة الصوت، وذلك بإطلاق الصواريخ الموجهة.
وإذا كان عالمنا كما يطلق عليه عالم الحاسوب والفضاء والثورة التكنولوجية، فإن هذا يتطلب مستوى عاليا من التفكير الابتكاري للأفراد، ليكونوا قادرين على فهم وتطوير هذا العالم، وذلك لأن العلاقة بين الابتكار والتطوير علاقة لا تنفصم عراها، فعلى عاتق المبتكرين يقع عبء تطوير المجتمع وتقدمه متحملين في ذلك صعاب المجتمع ومشاقه.
ومن هنا لا يمكن الفصل بين الاهتمام بدراسة الابتكار وتنميته وبين إحداث التطوير الشامل، فالاهتمام بالتفكير الابتكاري يعبر عن حاجة المجتمع للقادة والعلماء والمبدعين والمهندسين والفنانين، حيث يرى كثير من العلماء والمهتمين بهذا الميدان أن الابتكار عملية أساسية في هذه الأحوال جميعاً.
وإذ كان الابتكار بمثل هذه الأهمية فإن العناية به تكون ذات أهمية للأفراد فالعناية بما لدى الأفراد من قدرات ابتكارية تساعد التلاميذ في التعبير عن مشكلاتهم والمشاركة في حلها. ومن خلال الأنشطة الابتكارية التي يمارسها التلميذ يمكن أن يزداد فهم المعلم لتلميذه، كما أن العناية بالابتكار تجنب التلاميذ الوقوع في العديد من المشكلات النفسية التي تنشأ من كبت الابتكار وهكذا تتضح قيمة القدرة الابتكارية كواحدة من أهم القدرات.
وحقاً! إن هذه الفئة من أفراد المجتمع تعتبر ثروة قومية نادرة يجب الحفاظ عليها والعمل على تنميتها واستثمارها، وأن تزال عن طريقها كافة المعوقات التي تحول دون انطلاقهم إلى أبعد مدى لتحقيق الآمال التي يعقدها المجتمع عليهم في نهضته وتقدمه.
ولقد نال المعوقون من الرعاية والاهتمام من زمن طويل ما لم ينله المتفوقون، حيث لم ينل المتفوقون في البلاد العربية من الرعاية والدراسة والبحث ما يتناسب مع أهميتهم. ولذا يجب التركيز على هذه الفئة حتى تنال هي الأخرى حظها من الرعاية والاهتمام.
وفي مثل هذه الظروف التي يعيشها العالم في وسط هذا الانفجار المعرفي والثورة التكنولوجية، يجدر بنا أن نستغل تلك الثروة القومية (أبناءنا) تلك الطاقة التي لو أحسنا تربيتها والاهتمام بها لاندفعت بلادنا نحو التقدم والبناء.
والحقيقة أن أبناءنا في حاجة شديدة لمزيد من الدراسات في مجال الابتكار والقدرات العقلية، ليس هذا فقط، بل تطبيق نتائج تلك الأبحاث في الحقل التربوي، بل إن مدرسينا هم أيضاً في حاجة إلى الاستفادة مما وصلت إليه نتائج تلك الأبحاث حتى يستفيدوا منها في إفادة التلاميذ الذين نجد بينهم الطاقات الموهوبة والمبدعة والمبتكرة بل العباقرة أيضاً، حتى نتعرف عليهم، ولأن تلك الطاقات لو أهدرت لتحققت خسارة كبيرة على الأمة، بل ربما تتحول الطاقة إلى طريق آخر وهو استغلالها في مجالات ضارة كالجريمة!!
إن الإبداع أو الابتكار معروف منذ قديم الزمان، ولكنه لم يحظ بالدراسة العلمية والاهتمام الجاد. حتى جاء "جالتون" (1830م) وكان أول من أعطى اهتماما لهذا الموضوع، وأول من أجرى دراسة موضوعية عن الابتكار. ولكن الاهتمام الحقيقي بموضوع الابتكار لم يأخذ الطابع العلمي إلا منذ مطلع هذا القرن، فقد ذكر "جيلفورد" (1967) أنه حتى عام 1950 لم تلق دراسة الابتكار الاهتمام الكافي من جانب علماء علم النفس، وذكر أيضاً أن اهتمام علماء علم النفس بدراسة علم النفس دراسة علمية "تجريبية" وبطريقة جادة يرجع فقط إلى الاثنتي عشرة سنة الماضية.
وفي البحث في هذا المجال قام العديد من علماء النفس باستخدام اختبارات التحليل (بينيه، بيرت، هارجريفر) أو اختبارات الطلاقة، قبل "جيلفورد"، ولكن "جيلفورد" هو الذي قدم مفهوم الابتكار في السبعينات. وأشار إلى أن معظم اختبارات القدرة التي قام بها علماء النفس ومعظم اختبارات التحصيل الدراسي كذلك توجد في صورة (اختيار من متعدد) حيث تستدعي كل فقرة استجابة صحيحة، ويجب أن يتقارب تفكير الطالب مع الحل الذي تقرر مسبقاً.
ومع ذلك توجد أنماط أخرى تتضمن تنوعاً واسعاً من الاستجابات. وانتقد "جيلفورد" النظام التربوي الأمريكي لتأكيده على التمسك بالتقاليد ومسايرة ما يقوله المعلم وما يوجد في الكتب المقررة وعدم تشجيع الطلاب الذين هم على استعداد لأن يصبحوا علماء مبتكرين وفنانين مبدعين في الجيل القادم.
ومنذ ذلك الوقت وجدت هذه الدعوة قبولاً لدى علماء النفس في شتى المجالات لكي يصلوا إلى الجديد عن هذا النوع من التفكير الذي أشار إليه "جيلفورد"، وسَعَوا جاهدين- كل في مضماره- ليصلوا إلى دراسات تقدم تحليلاً لهذا التفكير والعمليات العقلية التي يرتبط بها ومدى الاستفادة من نتائج البحوث والدراسات في هذا المجال، والاستفادة من ذلك في مجال التربية.
تعريفات الابتكار والإبداع
يرى البعض أن الابتكار "استعداد فطري لدى المبدع". والإبداع لغةً مشتق من الفعل أبدع بمعنى اخترعه على غير مثال سابق.
ويقال أبدع الشاعر- أى جاء بالبديع- أبدعت الشيء أى استخرجته وأحدثته، ويقال فلاناً بدع في هذا الأمر أى أنه أول من فعله.
ويستحسن العلماء حالياً استخدام كلمة "ابتكار" بدلاً من كلمة "إبداع" أو "خلق" و"صنع". والابتكار ظاهرة إنسانية معقدة، ومتعددة الجوانب.
ويعرف "إيزنك" Eysenck الإبتكار بأنه القدرة على رؤية علاقات جديدة وعلى إنتاج أفكار غير معتادة والبعد عن الشكل التقليدي في التفكير".
ونظراً لأهمية التفكير الابتكاري في حياة الأفراد والتصاقه بمفهوم الإبداع وبوصفه أحد الأهداف التربوية التي تسعى المجتمعات الإنسانية إلى تحقيقها فقد تنوعت تعريفاته بين الباحثين ونذكر منها أيضاً أن الابتكار هو:
(العملية التي يصبح عليها الفرد حساساً للمشكلات وأوجه النقص وفجوات المعرفة والمبادئ الناقصة وعدم الانسجام وغير ذلك... فيحدد الصعوبات ويبحث عن الحلول ويقدم تخمينات ويصوغ فروضاً من النقائض ويختبر هذه الفروض ويعيد اختبارها ويعدلها ويعيد اختبارها مرة أخرى، ثم يقدم نتائجه في آخر الأمر).
كما عرف "سيد خير الله" التفكير بأنه قدرة الفرد على الإنتاج إنتاجاً يتميز بأكبر قدر ممكن من الطلاقة والمرونة والأصالة والتداعيات البعيدة كاستجابة لمشكلة أو موقف مثير. كذلك قد يلتبس الإبداع بمفاهيم أخرى غير الابتكار وهي: العبقرية والموهبة والذكاء.
أولاً- العبقرية:
العبقري: Genius ، هو من تجاوزت نسبة ذكائه 170 إذا طبق عليه مقياس (ستانفورد- بينيه) للذكاء، أى أنه يتصف بقدرة عقلية خارقة. وقد استخدم "جالتون" هذا المصطلح كمرادف لذوى الشهرة والممتازين من الناس.
أما "سبيرمان" 1931م فقد عنى به قدرة الفرد على الإنتاج الجديد. وفي نفس المعنى أيضاً يذكر "سبيرمان" أنه القدرة على الإنتاج الابتكارى.
أما (موسوعة علم النفس) فتعرف العبقري بأنه ذلك الشخص الذي يمثل أعلى مرتبة من مراتب القدرة العقلية، ويعتبر الشخص برأيها عبقرياً بالنسبة لقدراته العقلية بشكل عام أو نظراً لامتلاكه قدرات ومواهب خاصة ذات طابع خلاق وإبداعي.
كما تعرف العبقرية في وصف الأداء الذي لايفوقه شيء في الجودة والدقة والجدة. والعبقري- على هذا- هو الشخص الذي يظهر نبوغاً عالياً جداً، ويأتي بأعمال عبقرية في مجال أو أكثر من المجالات التي يقدرها المجتمع. وتشير نتائج الدراسات إلى أن نسبة العباقرة واحد في المليون ونسبة أصحاب الذكاء العالي خمسة وعشرون شخصاً في كل ألف من الناس تقريباً.
هذا وتدل العبقرية في معناها على النبوغ الذي يبدو عند بعض الأفراد في الأداء والسلوك الذي تتطلبه الثقافة القائمة ولذا ترتبط العبقرية ارتباطاً وثيقاً بالشهرة.
ثانياً- الموهبة:
من الذين فرقوا بين المبتكرين والموهوبين تايلر Tyler الذي يرى أن الموهوب هو المتفوق عقلياً في اختبارات الذكاء التقليدية، أما الابتكار فتدخل فيه عوامل عقلية خاصة مثل التذكر والإنتاج التباعدي بعناصره التي تتمثل في الأصالة والمرونة والحساسية للمشكلات، كما تدخل فيه عوامل دافعية مثل الميل إلى المناقشة والرغبة في الإنجاز والمثابرة وحب التصدي للمشكلات المعقدة وكذلك تدخل فيه عوامل شخصية مثل الاستقلال وحب المغامرة والمرونة والميل للفكاهة ونحو ذلك.
وهكذا يتضح مدى العلاقة بين الابتكار والموهبة. على أن الموهبة لا تطابق الابتكار في المعنى لأن مقاييس وبطاريات الكشف عن الموهبة لا تقتصر فقط على مقاييس القدرات الابتكارية بل لها بطاريات خاصة حسب المجال الذي تظهر فيه الموهبة. هذا وقد حدد علماء القياس أن الأطفال الذين يحصلون على نسب ذكاء بين 130-140 فما فوق هم (متفوقون موهوبون) وفي توزيع الذكاء لعينة عشوائية؛ يرى بعض الباحثين أن نسبة الموهوبين عقلياً هي 5%، بينما يرى آخرون على أنها لاتزيد على 1% بين السكان وليس فقط النسبة أو المقدار الرقمي فيه.
وقد توسع بعض الباحثين في معنى الموهبة وجعلها تشمل أنواع النبوغ الأكاديمية وغير الأكاديمية ويقصد بها التفوق العقلي والتفوق في التحصيل الدراسي بالإضافة إلى المواهب الفنية
ثالثاً - الذكاء:
هل هناك علاقة بين الذكاء العام والابتكار؟
تضاربت الآراء في هذا الأمر، حيث يرى البعض أن الذكاء قدرة منفصلة عن الابتكار فيرى "سبيرمان" أن الابتكار ما هو إلا مظهر للذكاء العام للفرد، وليست هناك قدرة خاصة للابتكار.
ومن العلماء من يرى أن الذكاء والإبداع عمليتان مختلفتان من أنواع النشاط العقلي للإنسان، وأن الذكاء لا يمثل إلا جزءاً من النشاط العقلي ومتميز عن قدرة الابتكار، فقد نجد شخصاً آخر على مستوى مرتفع من الذكاء ولكنه ليس مبدعاً فهناك إذاً قدر من التمايز وليس تمايزاً تاماً بن الذكاء والإبتكار، حيث يصعب أن نتصور وجود شخص مبتكر يكون في نفس الوقت ضعيف العقل.
ومن العلماء من رأى أن اختبارات الذكاء إنما تقيس قدراً من القدرات العقلية
نحو تحديد مفهوم دقيق للابتكار
يختلف الباحثون في تعريفهم للتفكير الابتكاري تبعاً لأطرهم النظرية والزوايا التي ينظرون من خلالها إلى تلك الظاهرة، فمنهم من تناول الظاهرة باعتبارها عملية أو عمليات سيكولوجية تمر بمراحل وهناك من حدد الابتكار باعتباره قدرة أو قدرات عقلية ومنهم من حدده في ضوء سمات دافعية يتصف بها الأفراد المبتكرون، ومنهم من نظر إليه باعتباره مجموعة من الظروف والعوامل الميسرة...
وعلى الرغم من اختلاف العلماء والباحثين في مجال التفكير الابتكاري حول تعريف هذه الظاهرة فإنهم يؤكدون على أهمية وجود إنتاج جديد سواءً كان للفرد أم للثقافة التي يعيش فيها.
المراجع:
- أحمد عبادة، حب الاسطلاع والابتكار لدى الأطفال، ط 1، (القاهرة، مركز الكتاب للنشر، 2001م).
- حسين عبد العزيز الدريني، الابتكار وتعريفه وتنميته- حولية التربية، العدد الأول، 1982م، جامعة قطر، السنة الأولى.
- حلمي المليحي، سيكولوجية الابتكار، ط2، (القاهرة، دار المعارف، 1969م).
- رمضان محمود القذافي، رعاية الموهوبين والمبدعين، (الإسكندرية، المكتب الجامعي الحديث، 1996م).
- زين العابدين درويش، تنمية الإبداع (منهج وتطبيقه)، ط1، (القاهرة، دار المعارف، 1983م).
- عطوف محمود ياسين، اختبارات الذكاء والقدرات العقلية بين التطرف والاعتدال، (لبنان، بيروت، دار الاندلس، 1981م)
- فتحي مصطفى الزيات، الأسس البيولوجية والنفسية للنشاط المعرفى (المعرفة، الذاكرة، الإبتكر)، ط1 (القاهرة، دار النشر للجامعات، 1998م).
- وليد محمد عودة العوزة، المكتبة ودورها في رعاية الموهوبين، مجلة التربية القطرية، العدد 105، 1993، تصدر عن اللجنة الوطنية القطرية للثقافة والعلوم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق